14 janv. 2013

في تخليق المنظومة القضائية



سئل مغربي عن أحلامه، فأجاب: قضاء نزيه، وظيفة وسكن لائق. فقيل له، يا مغربي إننا نسألك عن أحلامك وليس عن حقوقك.
فأن تتحول حقوق إنسان أو مواطني بلد بأكمله إلى أحلام، فهذا يؤكد بالملموس ان خللا كبيرا تعرفه البلاد وعلى جميع المستويات: اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا، قضائيا، تربويا وأخلاقيا.
لكن السؤال الكبير يتجلى في البحث عن مكمن الخلل، فاقتصادنا لم يولد منهارا، وقضاؤنا لم يولد فاسدا والمواطن المغربي لم يولد عبدا ومنزوع الحقوق، ولم تتحول حقوقه إلى أحلام إلا في ظل صراع مرير وعقود من الزمن.
فالواقع ينطق بقوة ويقول أن هناك مسلسلا ممنهجا لإفساد كل مناحي الحياة، من السياسية، إلى الاقتصادية، إلى الاجتماعية، من طرف السلطة السياسية التي عملت كل ما بوسعها لخلق وإبقاء وضع الاستغلال والنهب الاقتصادي لصالح فئة لا تهمها الأخلاق ولا التربية ولا التكوين ولا المستقبل، بقدر ما يهمها استمرار نهبها لثروات البلاد والعباد.
وقد تجلت عملية الإفساد هاته في خلق واصطناع نخب وأحزاب تظم انتهازيين لا مبدأ لهم ولا كرامة، ومقاولات اقتصادية لا يهمها أساس العمارات ولا شكلها ولا مضمونها بقدر ما يهمها الربح الذي تجنيه وراء ذلك. وعموما تم إنتاج "مخلوق" مغربي بمواصفات الربح وليس بمواصفات الأخلاق والكرامة والعفة والعمل.
ونظرا للدور المركزي الذي يحتله القضاء، حيث يشكل ملجأ المواطن البسيط الذي تسرق دجاجته، وهو أيضا ملجأ مالك الأرض أو المصنع الذي يتم احتلاله عنوة، وهو أيضا ملجأ ذاك المناضل الذي يتم اعتقاله، أو اختطافه وإقامته في زنازن أو حفر لا تتوفر فيها ابسط شروط عيش الحيوان وما بالك بالإنسان، فقد تم إدخاله في متاهات الفساد والرشوة، وغياب الكرامة حتى يتمكن أصحاب المال والنفوذ والسياسة والنهب من تمرير مخططاتهم.
وقد اعتمدت في سبيل ذلك عدة وسائل ليس أقلها تطبيق نظرية كريشام "LA MAUVAISE MONNAIE CHASSE LA BONNE" أي العملة السيئة هي التي تروج في السوق.
فالقاضي أو موظف كتابة الضبط، أو المحامي، أو الخبير أو المفوض القضائي... الذي له مبادئ وأخلاق وكرامة أي العملة الجيدة، يجد نفسه في طي النسيان، مغيبا ومرميا في متاهات الأرشيف ومهددا في ماله ووظيفته واستقراره، بينما يسطع ضوء العملة الفاسدة وتؤطر الندوات، وتدشن البنايات وتحضر الاحتفالات الرسمية. وعموما إنها عملة البلد وهي العملة التي أنتجت ما نراه ونشتكي منه اليوم من رشوة وكل مظاهر الفساد والزبونية والمحسوبية على حساب الحق والاستحقاق والقانون.
وكل شيء ينقلب في ظروف وشروط معينة إلى ضده، فالمواطن أو المستثمر الذي أصبح يحس بغياب الأمن قضائي هجر المحاكم بطرقه الخاصة. فالأول ينحو منحى الانتقام الشخصي وعدم انتظار ما قد يأتي أو لن يأتي ، والثاني يجد في بلدان الأمن القضائي ملجأ وملاذا له ولأمواله حتى يحصنها ويحصن نفسه.
إننا أمام صورة عكسية لتطور التاريخ والحياة الإنسانية، فالحياة البشرية ابتدأت بحياة وقانون الغاب، القانون فيها غائب تماما إلا قانون أكل القوي للضعيف، ثم تطورت رويدا رويدا حتى وضعت قوانين تحكم الجميع وتفصل في جميع النزاعات، في حين كان تطورنا عكسيا وردة إلى الوراء. فوضعنا القانون ثم خرقناه وتعمدنا ذلك بضغط من السياسي LE POLITIQUE المؤطر لتوجهات البلد، ثم رجعنا إلى حياتنا البدائية التي يقتص فيها كل واحد لنفسه، ويجعل من نفسه القاضي المصدر للحكم، وكاتب الضبط المنفذ له، وبعد ذلك يدفع نفسه قربانا لقضاء يعرف أيضا حكمه وقد رضي به لأن هو من أصدر الحكم بناء على معطيات يعرفها جيدا وتعطيه راحة نفسية من عدالة الحكم الذي سيصدر بعد مرور مرحلة حكم اللاعدالة التي أوصلته إلى القضاء هاته المرة كمتهم وليس كمطالب بحق.
في ظل هذا الوضع الكارثي بكل المقاييس، تأتي أسئلة كثيرة من قبيل: هل قدرنا أن نعيش وسط الفساد ونتعايش معه؟ كيف يمكن الانتقال من هذا الوضع إلى وضع أفضل؟ ومن أين نبدأ التخليق، من السياسي أم من المنظومة الداخلية للقضاء؟ ما هو دور الهيئات النقابية والمهنية والجمعوية في تخليق المنظومة القضائية؟ وما هي آليات التخليق وشروط نجاحه؟.

_ من أين يبدأ التخليق:

تسود نظرتان أساسيات في الجواب على هذا السؤال: التخليق من الداخل، والتخليق من الخارج، وكل واحدة لها أسسها التي تنبني عليها.
فالأولى ترى في الجسم القضائي بكل مكوناته عماد المنظومة القضائية وبالتالي لا يمكن أن نعول على جهاز خارجي يقوم بفرض التخليق على من الخارج وكأنه استمرار للتدخل والوصاية المفروضة على القطاع لعقود من الزمن.
أما الثانية، فترى في السياسي مفسدا للقضائي، وبالتالي فلا إصلاح للثاني إلا بصلاح وإصلاح الأول.
هاتان النظرتان التجزيئيتان، رغم الوجاهة الشكلية لدفوعاتهما وحججهما، تبقيان قاصرتان ولا تضعان الموضوع في إطار واحد ألا وهو استقلالية السلط ووحدة الواقع المعاش والمستقبل.
فالذي يرى في التخليق من الداخل وحده الكفيل بأوضاع المنظومة القضائية يغيب عنه أن القاضي، والموظف بكتابة الضبط، والمحامي، والمفوض القضائي والخبير... هو منتوج لنظام سياسي، تعليمي، مفاهيمي، رضع منه لمدة تزيد عن ثلاثين سنة ولازال يرضع منه، وأن المنظومة القضائية ليست جهاز كمبيوتر يتم مسح محتوياته FORMATER وتثبيت محتويات أخري واستعمال مضاد للفيروسات إن اقتضى الحال ذلك.
أما نظرة مسؤولية السياسي في إصلاح القضائي بناء على أن السياسي هو من افسد القضائي، فهي تبقى نظرة انهزامية تصدر الأزمة للطرف الآخر حتى تبقى المنظومة منخورة بالفساد والرشوة وجميع السلوكيات المنافية للأخلاق. كما أنها تعول على الفساد لإصلاح الفساد وهي بذلك تحب الدوران في حلقة مفرغة.
إن التخليق مفهوم شمولي تقوم به جميع الضمائر الحية، فأينما وجد الفساد وجبت مواجهته ومجابهته، وعلى المنظومة القضائية أن تقوم بواجبها في مواجهة فساد متعدد الرؤوس والأرواح: سياسية، تعليمية، اقتصادية، اجتماعية، أخلاقية، قضائية، مهنية...وهذا لن يتأتى إلا بامتلاك الإرادة والجرأة والانخراط الواسع في نضالات الشعب المغربي من اجل عدالة اجتماعية ومواجهة الفساد ورموزه أينما حلوا وارتحلوا. 
 
_ دور الهيئات النقابية والمهنية والجمعوية في التخليق:

تلعب الهيئات النقابية والمهنية والجمعوية دورا مركزيا في تخليق الحياة العامة عموما والمنظومة القضائية على وجه الخصوص، سواء بوقوفها ضد الفساد والمفسدين والمرتشين أو بالدفاع عن الأوضاع الاجتماعية، الثقافية، المهنية، المعرفية للمنخرطين، أو تنظيم ندوات وحملات تحسيسية مفتوحة كانت أم خاصة بالأعضاء والموظفين.
ولكن واقع الحال يذهب في اتجاه نخر الفساد لجل هاته التنظيمات، بل إن البعض منها يتحول بقدرة السياسي الذي خلقه إلى مزكي للفساد ومنظومته بدل المواجهة المفترضة فيه.
وكدليل على ذلك، أن جل القضاة منضوون في هيئات مهنية وجمعوية، كما أن جل الموظفين منخرطون في تنظيمات نقابية وجمعوية، ونفس الشيء بالنسبة للمحامين والموظفين القضائيين والخبراء...
فمن الفاسد والمفسد، ومن المرتشي، ومن يواجه الفساد ومن يزكيه؟
إن وضعا كهذا، والذي لعب فيه السياسي عبر بوابة وزير العدل، دورا حاسما في خلق تنظيمات موالية وتمكينها من ريع القطاع لتزكية وإنجاح تجربته ومخططاته، يتطلب من القاعدة المشكلة لهاته التنظيمات طرح سؤال الهوية، كما يتطلب العمل على تأسيس هيئات مهنية جادة تتحالف عموديا ولم لا الحديث عن إطار ديموقراطي تقدمي ينخرط فيه جميع الفاعلين في المنظومة القضائية وفق ما يسمح به القانون، وتكون من أولى مهامها تطهير صفوف التنظيمات والقطاع من الانتهازيين والوصوليين والفاسدين والمرتشين.

_ آليات التخليق وشروط نجاحه:

حتى يتم التغلب على الوضع الحالي للمنظومة القضائية، والتي أصبحت في نظر الكثيرين محط سخرية، بل ومن طرف بعض أهل المنظومة نفسها، وجب التحرك السريع عبر طرق وآليات مختلفة، كما يجب العمل الحثيث على توفير شروط نجاح الإصلاح المنتظر.
ومن بين ما يتحتم القيام به:
_ حملات تحسيسية وتوعوية داخل المحاكم وخارجها، حتى يصبح الشأن القضائي شأنا عاما
_ انتاج برامج اذاعية وتلفزية حول المنظومة القضائية، وتفادي الصورة التقزيمية لبعض البرامج الحالية التي تقدم المحكمة على أنها قاض ومحام ونائب وكيل الملك.
_ القيام بحملات تطهيرية ضد السماسرة وشهود الزور، خصوصا أولئك الذين تتكرر اسماؤهم في مجموعة من الملفات التي لا تربطها اية علاقة،
_ تعزيز الثقافة الحقوقية،
_ تحديث الهياكل القضائية والادارية،
_ تمكين المتدخلين في العملية القضائية والعموم من المعلومة،
_ تخليق الحياة العامة،
_ التكوين المستمر،
_ اعتماد معايير صارمة في اختيار و انتقاء الموارد البشرية، و تسهيل ولوج كتاب الضبط الذي راكموا خبرة للمهن القضائية،
_ توفير المناخ اللازم والوسائل الضرورية،
_ احداث معاهد ومدارس لتكوين كل الفاعلين في العملية القضائية تكوينا اساسيا ومستمرا،
_ اتخاذ اجراءات ملموسة بدل الخطاب السياسي الموسمي،
_ القيام باستطلاعات الرأي لدى الراي العام لقيام مؤشرات التفاعل والتجاوب مع مخططات الاصلاح،
_ تسهيل ولوج المتقاضين الى العدالة والمعلومة القضائية، وانتاج نشرات دورية بخصوص الاحكام الصادرة في ربوع المملكة،
_ ضمان شفافية عمل المؤسسات القضائية والادارية،
_ مسايرة متطلبات الحياة من حيث سرعة اصدار، تنفيذ الاحكام، والحصول على الوثائق والشواهد المطلوبة،
_اعادة النظر في الانظمة الاساسية للمتدخلين في المنظومة القضائية، وتحديد مهامهم بشكل دقيق، حيث لا يعقل أن يبقى كاتب الضبط مثلا ورقة لملأ الفراغ والاستعمال المزاجي،
_ إعادة النظر في مباشرة التقييم لبعض الفئات، حيث لا يعقل أن يبقى القاضي ورئيس مصلحة كتابة الضبط أو النيابة العامة تحت رحمة تنقيط رئيس او وكيل المحكمة في الوقت الذي نتحدث فيه عن استقلالية القاضي واستقلالية كتابة الضبط.
_ تحسين الوضعية المادية لجميع المتدخلين في المنظومة القضائية وضمان حد ادنى من الأجر للمهن الحرة والشبه حرة خصوصا المبتدئين منهم،
_ توفير الخدمات الصحية و الاجتماعية
_ خلق هيئات جهوية للمراقبة و المحاسبة،
_ تحديث المنظومة القانونية وملاءمتها مع الالتزامات الحقوقية الدولية للمغرب،
_ إعداد البنايات والتجهيزات اللائقة بمكانة وسمعة المنظومة القضائية،
_ اعادة النظر في الميزانية المخصصة لقطاع العدل والحريات باعتباره سلطة،

خاتمة:

ان التقدم في الاصلاح وإنتاج بديل عن الوضع المأزوم، يتطلب فهما ورؤية كاملة ومتكاملة من طرف المسؤولين أولا ثم من طرف الفاعلين ثانيا.
وهاته الرؤية المتكاملة تغنينا من السقوط في إنتاج خطاب مزدوج وممارسة بعيدة كل البعد عما نروجه من خطاب.
وهكذا، ففي الوقت الذي نتحدث فيه استقلالية القضاء وعن تبويء كتابة الضبط المكانة اللائقة بها ضمن مخطط شامل للإصلاح، والذي لم يكن مطلبا جديدا، بل يعود الى عقود خلت، لا نفهم موقفين صريحين غريبين:
الأول وهو الصادر في السنة الماضية حين عملت وزارة العدل ومعها مجموعة من الفرق البرلمانية على تعويض كاتب الضبط بأي شخص من الحضور في الجلسة: فما هي الصورة التي نريد إيصالها للمواطن، وهل قدرنا حجم الضرر الذي لحق سمعة القطاع جراء إجراء متهور كهذا؟
ثم تصريح لرئيس الحكومة المغربية الذي يقول فيه: عفا الله عما سلف. فما المطلوب من القاضي أمام هذا التصريح، وهل يمكن الحديث عن استقلالية للقضاء بعده؟
إن رغبة الإصلاح ليست هي الإصلاح، فالإصلاح صراع مصالح، صراع مواقع، صراع تاريخ وجغرافيا...، فهل نقدر فعلا ثمن الإصلاح أم ستنضاف جولات الحوار من أجل إصلاح منظومة العدالة إلى أرشيف الممملكة المليء بمذكرات الإصلاح ومشاريعه التي لم تر النور يوما؟

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire