20 mai 2013

المجتمع المدني في الفكر المعاصر:



يعتبر مفهوم المجتمع المدني من أكثر المفاهيم التي تعرض لها الفكر المعاصر بالدراسة والنقد. و قدمت مجموعة من التعاريف ومحاولات التعريف, شملت مجموعة من المفكرين والباحثين على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية.
ورغم الاختلافات بين هؤلاء المفكرين و الدارسين, والتي قد تصل إلى حد التناقض, فان التعاريف المقدمة ترى في المجتمع المدني مجموع المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة دون تدخل أو توسط الحكومة. وتحدد الوظيفة الأساسية إذا  تمكن من الوصول إلى مرحلة التمأسس والتنظيم القوي والفعال هي لعب دور الوساطة بين الفرد المواطن والدولة القوية المطلقة السيادة.
وتعميقا للفهم والنقاش نورد مجموعة من التعاريف التي صيغت للتعريف بالمجتمع المدني, حيث عرفه عبد الله دمومات بما يلي: "يقصد بالمجتمع المدني في المغرب مجموع التنظيمات والجمعيات العاملة في الحقل الاجتماعي و الثقافي  والرياضي والاقتصادي و الصحي .. بهدف تحقيق أهداف معينة وفق القوانين الأساسية المؤطرة لأعمالها ونشاطها وموضوع أهدافها.
وتعتبر هذه التنظيمات والجمعيات أنها تشتغل وتتحرك في استقلال عن سلطة الدولة ووصاية الأحزاب السياسية والنقابات.."[1]
ويرى عياض بن عاشور بان المجتمع المدني " هو مجموع التنظيمات الإدارية والاصطناعية( غير الطبيعية) التي تعبر عن المصالح و الآراء وتدافع عنها (كالنقابات والأحزاب والجمعيات والمجموعات الترابية والشركات والمقاولات واتحادات أرباب العمل"[2].
بينما يقيم عابد الجابري تمايزا بين مجتمع المدن والمجتمع البدوي ويورد أن " المجتمع المدني هو أولا وقبل كل شيء مجتمع المدن, وأن مؤسساته هي تلك التي ينشئها الناس بينهم لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فهي إذن مؤسسات إرادية أو شبه إرادية يقيمها الناس وينخرطون فيها أو يحلونها أو ينسحبون منها, وذلك على النقيض تماما  من مؤسسات المجتمع البدوي القروي التي تتميز بكونها مؤسسات "طبيعية" يولد الفرد منتميا إليها مندمجا فيها, لا يستطيع الانسحاب منها, مثل القبيلة والطائفة"[3].
و قد كان المجتمع المدني موضوع تعاريف قاموسية, عرفته بطريقتها الخاصة حيث نقرأ في القاموس الدستوري لOlivier Duhamel  "المجتمع المدني ومكوناته مجموعة أو جماعة من المواطنين أحيانا مشخصة وأحيانا أخرى معارضة للمجتمع السياسي"[4]. وفي  قاموس العلوم السياسية ل Bertrande Badie نجد: "المجتمع المدني كإطار مفهومي يسمح بممارسة التفكير ضمن مقاربة تسعى إلى مقاربة تغليب الحقوق الأساسية للشخص الإنساني"[5].
و قد كان المفهوم موضوع عدة ندوات حاولت التعريف به حيث اقترحت ندوة بيروت 1992 التعريف التالي: "المجتمع المدني المقصود في هذه الندوة هو مجموع المؤسسات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدول لتحقيق أغراض متعددة, منها أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى القومي ومثال ذلك الأحزاب السياسية, ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة, ومنها أغراض مهنية كما هو الحال في النقابات للارتفاع بمستوى المهنة و الدفاع عن مصالح أعضائها, ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. وبالتالي يمكن القول إن الأمثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي : الأحزاب السياسية والنقابات المهنية , النقابات العمالية, الجمعيات الاجتماعية والثقافية"[6] .
وفي الفصل 15 من ندوة بيروت يرى حسنين  توفيق إبراهيم أن المجتمع المدني ممثل ل"مجموعة من الأبنية السياسية والاقتصادية و الاجتماعية و القانونية التي تنتظم في إطارها شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع ويحدث ذلك بصورة دينامية ومستمرة من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية التي  تنشأ وتعمل باستقلالية عن الدولة"[7]
بينما اعتبر الملتقى الاورومتوسطي المنعقد سنة 1999 بشتوتكارت المجتمع المدني مجموع الهيئات والجمعيات والوسائط التي تعمل خارج السلطة من اجل تحقيق الحريات العامة.
وإذا كانت اغلب التعاريف قد ركزت على المنظمات والمؤسسات المشكلة للمجتمع المدني, فان أماني قنديل تحدث عن أركان[8] المجتمع المدني وحددها في ثلاثة و هي:
- الركن الأول ويقتضي توفر إرادة الفعل الحر والطوعي, لذلك فالمجتمع المدني يختلف عن الجماعات القرابية مثل الأسرة والعشيرة والقبيلة, والتي  لا دخل للفرد في اختيار عضويتها.
- الركن الثاني و هو أن المجتمع المدني مجتمع منظم, يساهم في خلق نسق من المؤسسات والاتحادات التي تعمل بصورة منهجية خاضعة في ذلك لمعايير منطقية ولقواعد وشروط وقع التراضي بشأنها.
- الركن الثالث وهو ركن أخلاقي سلوكي ينطوي على قبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخرين وعلى الالتزام في إدارة الخلاف داخل, وبين مؤسسات المجتمع المدني, وبينها و بين الدولة, بالوسائل السلمية, في ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس و الصراع السلمي.
فيما تحدث عبد الإله بلقزيز عن بنى المجتمع المدني التي هي "النقابة, والرابطة الحقوقية, والاتحاد الطلابي, والجمعية النسائية, والعصبة المهنية, والتجمع الاقتصادي للمستهلك, والمنتدى الثقافي.." [9], و رأى أن "مؤسسات المجتمع المدني المؤسسات الاجتماعية التضامنية التي يجنح مجتمع ما إلى تأليفها و غالبا ما تكون لذلك التأليف وظيفة دفاعية يؤمن بها المجتمع القدر الضروري من استقلاله في مواجهة فاعلية التدخل السياسي والاجتماعي للدولة أو للسلطة المركزية".
وقد عرفه عبد الله حمودي مؤكدا على وظائفه ومؤسساته: "تتحدد وظائف المجتمع المدني في تحقيق مجموعة من الأهداف المحدودة مثل تقليص الهوة بين الفقراء و الأغنياء, الدفاع عن مصالح مهنة أو حرفة معينة..هذا هدف محدد تنشا له مؤسسات خاصة تعمل بأساليب معينة (نوادي, جمعيات اجتماعية...) وهي مؤسسات لا تتبنى منظورا اديولوجيا محددا رغم أنها تعرف وبعض أفرادها قد يعرفون أن الرأسمالية ابعد من الاشتراكية في تقليص الهوة بين الفقراء والأغنياء....."[10]
وركز عبد الحي أزرقان من جهته على الطابع الإرادي للإفراد المنتمين و عرف المجتمع المدني بأنه "ذاك الإطار الاجتماعي الخاضع لنظام معين ينضبط له الأفراد المكونون له دون أن يتم ذلك نتيجة سلطة قهرية. حيث يلتزم الفرد بمجموعة من الضوابط في سلوكه اليومي بشكل إرادي نظرا للاقتناع الذي حصل عنده بأهميتها بالنسبة للسير الجيد للحياة الجماعية التي تتفق إلى درجة كبيرة مع مصالح الفرد المنتمي إلى هذا المجتمع وأهدافه وطموحاته"[11].
وعلى النقيض من ذلك يرفض الإسلاميون مفهوم المجتمع المدني حيث قدم عبد السلام ياسين تعريفا يحتوي استهتارا كثيرا وتعاليا على المفهوم بقوله: ما المجتمع المدني? ليجيب: " عبارة عن أحزاب ومنظمات ومؤسسات وجمعيات سياسية, مهنية, عمالية, طلابية, نسوية, جهوية, قروية, بيئية, طبية, رياضية, خيرية, شبابية, قدماء كذا و كذا, تربوية, ثقافية, فنية (...) والباب مفتوح لمؤسسات و نوادي للعراة والشواذ وهواة كل ما يخطر على البال. بال المتحررين من كل دين و أخلاق ومروءة (...) المجتمع المدني تكتلات و تعاون على المصالح (...)"[12]. ورغم اعترافه أن المجتمع يفتح الباب أمام الجميع, فقد طرح جماعة المسلمين بديلا عنه حيث قال:" أما الولاية بين المؤمنين و هي الرباط المتين لجماعة المسلمين قاعدة الشورى فالطاعة فيها لله والرسول طاعة تتكيف المصالح بها و تتلاشى عليها وتحتكم إليها.(...) لا جرم تهون الخلافات لان القلوب رققها الإيمان, ويتراحم الخلق رجاء الفوز برحمة الله, وطمعا في النجاة من عذاب الله, لا جرم يتسامح الخلق, ويتصالح الخلق و يتعاون الخلق"[13]. فحسب منظر جماعة العدل و الإحسان, فالإيمان سيرقق القلوب وينمحي بذلك تضارب المصالح. ولعلمنا فتضارب المصالح لم ينمح قط من تاريخ البشرية رغم مرور حكم الأنبياء والرسل و الخلفاء الراشدين وعدد مهم من المبشرين بالجنة الذين يشهد لهم الجميع بالإيمان و برقة القلوب. ولكن يبدو جليا ان السيف سيتكفل بالمهمة كما قال عثمان بن عفان " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
فالأصولية ترى ان مرجعيتها لا ترجع إلى مفهوم دخيل بالرغم من كون خدماتها اليومية التي تقدمها للشرائح الشعبية تمثل تلبية موضوعية لحاجيات و لحقوق إنسانية و اقتصادية و اجتماعية و بالتالي تقربها من تنظيمات المجتمع المدني.
فيما يرى البعض الآخر من الإسلاميين ان مصطلح مدنيّ لا يُناقض مصطلح إيمانيّ. وان الانطلاق من التفكير الكنسيّ كممثِّل للفكر الإلهيّ ; خطأ فكريّ مفضوح، وإساءة للعلم وللعقل وللحقيقة التي لا تسترها محاولات التعتيم المُغرِضة. وان تبني المفهوم العلمانيّ ناتج عن  الخلط وعدم التمييز بين النظريّة الكنسيّة المتخلِّفة، والمنحرفة عن مبادئ الوحي الإلهيّ ، وبين مبادئ الرِّسالة الإسلامية في بناء المجتمع والدولة ، فصار مفهوم المجتمع المدنيّ  ملازماً للعلمانيّة.

وهذا الاتجاه من  الفكر الإسلامي يدعي امتلاكه  لنظريّته في بناء المجتمع المدنيّ, لكن دون تقديمها مكتفيا بالتلميح بأنها معادية للعلمانية التي بني عليها المفهوم
.
  ان غالبية التعريفات المتداولة حديثاً حول المجتمع المدني تسير في هذا الاتجاه، ونلاحظ على هذه التعريفات أنها تركز على استقلالية ـ إلى حد ما ـ المجتمع المدني عن السلطة السياسية، وهكذا أصبح المفهوم في الأدبيات السياسية المعاصرة ـ وهي أدبيات ليبرالية في غالبيتها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ـ تتجه لإحالة مفهوم المجتمع المدني إلى تلك الاستقلالية التي يتمتع بها الأفراد عن الدولة سواء على مستوى تشكيل الأحزاب أو الانخراط في النقابات أو ممارسة حق التجمع والتظاهر وكل سبل الاحتجاج السلمية وكل ذلك في إطار القانون. وهذا يعني أنه تم تجاوز الحديث عن العلاقة المباشرة بين المواطن والدولة وتجاوز الهيمنة المطلقة للسياسي على الاجتماعي، وأصبح الحديث يدور عن علاقة غير مباشرة أو علاقة جدلية، حيث تتوسط بين الطرفين تنظيمات المجتمع المدني من هيئات وجمعيات ونقابات، دون أن يعني الأمر بطبيعة الحال قطيعة بين الطرفين، فالدولة أو السلطة السياسية يبقى لها دور الهيمنة لأنها دون هذا الدور لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها السياسية والحقوقية، كما أن مؤسسات المجتمع المدني تبقى مقيدة بشبكة من القوانين والضوابط التي تحددها الدولة و إلا سيتحول المجتمع المدني إلى دولة داخل الدولة.
كما يتّضح من المفاهيم و التعاريف المساقة لتعريف المجتمع المدنيّ أنّ أصحابها يتحدّثون عن عدد من القضايا والمفاهيم والآليّات السياسية والفكرية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، ويحاولون أن يشكِّلوا صورة هذا المجتمع من خلالها، كلّ وفق رؤيته وفهمه ونظريّته .


[1]عبد الله دمومات جمعيات و تنظيمات المجتمع المدني مجلة العلوم الاجتماعية أبحاث العدد 55 السنة العشرون صيف 2003  ص 59 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء.
[2]عياض بن عاشور المجتمع المدني, دولة القانون و الديمقراطية في المغرب العربي وعي المجتمع بذاته عن المجتمع المدني في المغرب العربي إشراف عبد الله حمودي  ص59  دار توبقال للنشر الطبعة الأولى 1998.
[3] محمد عابد الجابري المجتمع المدني : تساؤلات و آفاق وعي المجتمع بذاته عن المجتمع المدني في المغرب العربي إشراف عبد الله حمودي  ص 45  دار توبقال للنشر الطبعة الأولى 1998.
[4]Dumahel(O) , Yves Meny, le dictionnaire constitutionnel, Edition P.U.T Année 1992 Paris
[5] Bertrand Badie, 1. Bbrand. Dictionnaire de la science politique et des institutions politiques. Edition A.Colin. Paris. Année 1994
[6] عمر برنوصي مفهوم المجتمع المدني بين الفلسفة السياسية الغربية و السوسيولوجيا المعاصرة : محاولة في التركيب مجلة فكر ونقد السنة الرابعة العدد 37  مارس 2001 ص 31
 [7]  عن عمر برنوصي, مرج سابق, ص 31 .
 [8] أماني قنديل تطور المجتمع المدني في مصر عالم الفكر المجلد السابع و العشرون العدد الثالث يناير/مارس 1999 ص 100.
في الديموقراطية و المجتمع المدني عبد الإله بلقزيز ص 20[9]
[10] عبد الله حمودي مصير المجتمع المغربي رؤية انتروبولوجية لقضايا الثقافة و السياسة و الدين و العنف دفاتر وجهة نظر (5) ص 36 مطبعة النجاح الجديدة.
[11] عبد الحي أزرقان المجتمع المدني: محاولة تعريف و تحديد مجلة فكر و نقد السنة الأولى  العدد 3 نوفمبر 1997 ص 17 دار النشر المغربية – الدار البيضاء
 عبد السلام ياسين, حوار مع الفضلاء الديموقراطيين, ص 83[12]
عبد السلام ياسين, مرجع سابق, ص 88[13]
[14] عزمي بشاره وآخرون ، حول الخيار الديمقراطي : دراسات نقدية ، ( 1993 ) ، ص88 – 89
 د حسن قرنفل المجتمع المدني و النخبة السياسية اقصاء ام تكامل? ص  57  مطابع افريقيا الشرق اكتوبر 1997[15]
سالم الساهل, تصورات عن المجتمع المدني و المجتمع السياسي, مجلة العلوم الاجتماعية ابحث العدد 55, السنة العشرون, صيف 2003,  ص 53[16]
دستور سنة 1992[17]

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire